في طريق العودة إلى داري عبر باريس

في طريق العودة إلى داري عبر باريس حجزت على قطار بتكلفة أقل برحلة اطول تشمل ساعة ترانزيت في مدينة نانت قبل الوصول إلى لاروشيل.
اعتدت السفر من محطة مونبرناس Montparnasse على القطار السريع الذي يقطع مسافة 500 كم في ثلاثة ساعة تقل أو تزيد حسب المدن التي سيمر بها. إلا اني هذه المرة وقعت على قطار كلاسيكي ينطلق من محطة Austerlitz في الجنوب الشرقي بباريس وهو بالفعل قطار مختلف في أشياء كثيرة اقلها طاقمه الطريف وصوت عجلاته الصاخب.
مقصورات طويلة وعريضة. مع انه من طابق واحد إلا ان الصعود اليه تمرين رياضي. ما يزال هناك عامل يقف عن الباب وعلى فمه صفارة تشق كبد السماء.
كنت قد رأيت طاقم القطار عند المدخل وهم يفتشون تذاكر الركاب وتوجهت إلى إحداهن لتفحص صلاحية تذكرتي عبر الهاتف فابلغتني ان جهازها مضرِب اليوم وعلي التوجه إلى اي من رفاقها. اخذت كلامها مزحة ونذير سوء.
في الثانية عشرة وسبع وأربعين دقيقة ظهرا انطلق القطار وهو مائل على الرصيف وبدأ مساعد القبطان يتحدث إلى الركاب مرحباً بهم ومعلناً الوجهة الأخيرة والوجهات الوسطى ومررّ حديثة بلغات عدة منها -بعد الفرنسية بالطبع- الإنجليزية والإسبانية والألمانية. عرفت هذه الأخيرة من كلمة بانهوف. لا وجود للعربية هنا في كل الأحوال.
جلستُ في المقعد رقم 82 وأمامي سيدة إفريقية مليحة الملامح لا تترك الهاتف عن أذنها ومعها طفل لا يزيد عمره عن العامين.
في الكرسيين المقابلين سيدة ملامحها أسبانية وطفلتها الثرثارة طليقة الحديث مع ان عمرها لا يزيد على أربع أعوام. وخلفي فتاة هندية أقرب إلى الوجه العربي. هي ترمقني كأني إبن بلدها وأنا احسبها عربية ولم يجروء اي منا الحديث إلى الاخر.
هاتفي يوشك ان ينطفى فنهضت ابحث عن مقبس كهرباء.
قررت مغادرة مقعدي والذهاب إلى كراسي أخرى بحثا عن مقبس للشحن.
وحده مقبس في منتصف المقصورة يعمل. وهو مقبس واحد لأربعة كراسي متقابلة توازيها اربعة اخرى.
وبعد دقائق حضر طاقم القطار
-عدا السائق بالطبع – واخذوا مقاعدهم إلى جواري؛ رجل ابيض طويل القامة وبلحية شهباء. ورجل من أصول إفريقية بدين منتفخ البطن مع انه شاب في مقتبل العمر. وفتاة خلاسية قصيرة القامة ذات ملامح خجولة فاتنة وشعر مجعد ذهبي الصبغة. وفتاة فرنسية بيضاء بملامح طفولية مكتنزة ما دون الزيادة وبجسم متوسط القامة. هؤلاء جميعا أعماره لا تزيد على نهاية العشرينات.
ثم جاءت سيدة هي أكبرهم سناً ولم تجد مكانا إلا الكرسي الذي يقابلني. استأذنتي الجلوس ونبهتني انهم ثرثارون فقلت لها لا باس.
وباشرتني المزاح.
كانت الاجواء بينهم غير رسمية على الإطلاق ويبدو انهم متخففون من قيود العمل وضغط ارباب العمل عليهم يدخلون المقصورة معا ويخرجون منها معا .
كان ذلك النهار هو النهار الأسخن في نهاية موسم الشتاء وبداية الربيع وقد بلغت الحرارة فيه 19 درجة مع شمس تسوط الرؤوس.
خلعت ما ارتدي؛ جاكيت وكنزات وشال رقبة، وابقيت قميصي وبنطالي الجنز فوقي.
قالت لي : يقال ان الرجال الذين يلبسون أقمصة مقلمة يحبون الميكاب.
انفجر زملاؤها ضاحكين فاستبنت انها تمازحني.
كانت ضحكتهم تغريني في الخوص معهم.
أجبتها : لا احبه كثيرا . قليلا منه لا بأس.
وهكذا افتتح الحوار بيننا
– لكنكَ لم تضع شيئا على وجهك ؟
الجو لا يستدعي الصرامة. وانا بحاجة إلى تسلية لتمضية الوقت في رحلة ستأخذ مني قرابة ست ساعات.
– مسافر ولم اخذ أغراضي هذه المرة
قفزت البيضاء وقالت : يمكنني إعارتك علبتي.
تبيني لي اني ذاهب إلى اللاعودة في الحديث
– اخشى انك تستخدمين ماركة غير ملائمة .
قررت الكبيرة ان تنقل الكرة نحو الطرف الاخر.
-هل تعلم ان زميلي ماتيو لا يتردد في اظهار الجانب الأنثوي منه؟
بينما كانت ماثيو ذي اللحية الشهباء ينتظر ما ستجود زميلته بمزحة ثقيله في حقه سألتها :
على اي نحو ؟
-انه يرتدي قبعة وردية. ثم لا يخدعك مظهره الخارجي . اللحية هي التعبير المناقص لما لديه من انوثه. ملابسه الداخلية نسائية.
انفجر الجميع بالضحك . ثم جاء دور الفتاة الأجمل لتتلقى الكرة
-وانتِ متى ستغنين؟
التفتت نحوي وسألتني: هل تعلم انها تغني ولديها جمهور وقناة على النت ؟
-حقا ؟ ما اسم قناتها
– أجابني الفتى الهايل الحجم : ابحث في يوتيوب بإسم ” ميكسي” وتكتب
Mixcy .
استدرتُ نحو الفتاة المغنية المزعومة : أحقا أنت مغنية ؟
– نعم
أأنت هاوية أم ؟
-مهنتي الثانية إلى جانب عملي في شركة سكك الحديد.
عادت الأكبر سنا للتعليق: شركتنا مليئة بالمواهب.
ماتيو سيرقص. وانا قد اجد وقتا لممارسة موهبة الغناء أليس كذلك؟ قد يتحسن دخلي .
وهنا قرر ماتيو الانتقام وباشرها : ان مهنتك الحالية في البغاء كفيلة بتحسين دخلك.
عمت ضحكة المصدومين.
ارتفع صوت المكرفون : الركاب الأعزاء ! يصل قطارنا إلى محطته الثانية وسيتوقف بضع دقائق ،
اخبروني ان القطار سيتوقف لمدة 12 دقيقة لإصلاح خلل ما ودعوني لشرب السجاير معهم .
اعتذرت قائلا اني ادخن سيجار صغير وليس الوقت المناسب الان.
ونهضوا للنزول المؤقت.
واصل القطار سيره والتوقف عند كل محطة فحسبته انه لم يبق قرية فرنسية إلا وعبر بها.
وفي المحطة السادسة صعد فريق أمن الشركة. ثلاث نساء مشدودات الهيئة ورجلان يرتدون ملابس كحليّة هي ملابس العاملين في الامن.
عبروا المقصورة وتوقفوا عن مقعدي إذا لفت انتباههم أكوام أشياء وهي دون راكب. سألتْ فتاة امن ملامحها آسيوية : مَن هنا ؟
– أنا لكني انتقلت بحثا عن مقبس.
بلغة حازمة وعالية قالت: لا تغادر مكانك. لا تترك أغراضك وحيدة.
– حال انتهي من شحن هاتفي ساعود إلى مقعدي.
وكما لو ان إجابتي ساءتها ، صرّمت وجهها وكررت : من غير المناسب ان تغادر مقعدك وتترك أغراضك وحيدة.
– حسناً.